مشروع "الشرق الأوسط الجديد": من سايكس بيكو إلى الفوضى الخلاقة - قراءة نقدية في جذور الهيمنة وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة

 

مشروع "الشرق الأوسط الجديد": من سايكس بيكو إلى الفوضى الخلاقة - قراءة نقدية في جذور الهيمنة وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة

لقد نشأ مشروع "الشرق الأوسط الجديد" في رحم صراعات وتحولات جيوسياسية عميقة تعود جذورها إلى أوائل القرن العشرين، ابتداءً من اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، التي مزّقت العالم العربي إلى مناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا، مرورًا بوعد بلفور عام 1917 الذي مهد الطريق لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وانتهاءً بمشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي أعادت الإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن تسويقه تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنه في جوهره كان يسعى إلى تفكيك بنى الدول العربية والإسلامية، وإعادة رسم خرائطها على أسس طائفية وعرقية ومذهبية، لضمان التفوق الإسرائيلي وإضعاف أي مشروع وحدوي عربي أو إسلامي.

من خلال الأدوات المتعددة، التي تراوحت بين القوة العسكرية المباشرة كما حصل في غزو العراق عام 2003، والضغوط الاقتصادية والدبلوماسية، والدعم غير المباشر لقوى داخلية مسلحة، ومؤخرًا عبر أدوات "القوة الناعمة" و"الاتفاقيات الإبراهيمية"، استطاعت القوى الكبرى أن تدفع باتجاه خلق حالة من "الفوضى الخلاقة"، بحسب تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس.

يرتبط هذا المشروع أيضًا بوثيقة "القطيعة النظيفة: إستراتيجية جديدة لتأمين المملكة" التي أعدها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة لصالح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عام 1996، والتي دعت صراحة إلى إسقاط الأنظمة التي تشكل تهديدًا لإسرائيل، وعلى رأسها النظام العراقي والسوري والإيراني، وإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم "أمن إسرائيل" وتفوقها النوعي.

وتعزز هذه الأجندة أيضًا برؤية برنارد لويس، المفكر الصهيوني، الذي دعا إلى تقسيم العالم الإسلامي إلى كيانات طائفية وعرقية، في رؤية أطلق عليها "سايكس بيكو 2"، بما يعني تفكيك ما تم تركيبه سابقًا ولكن بطريقة أكثر فوضوية، وباستخدام أدوات داخلية. وفي هذا السياق، نُشرت خريطة "الشرق الأوسط الجديد" للضابط الأمريكي المتقاعد رالف بيترز عام 2006، والتي أعادت رسم حدود الدول العربية والإسلامية بشكل كامل، وأبرزت تقسيم المملكة العربية السعودية، العراق، سوريا، تركيا، إيران، وباكستان، في تصور يدّعي تصحيح "الظلم التاريخي" ولكنه في الحقيقة يعكس أجندة تفتيتية خطيرة. لقد جرى بالفعل تنفيذ أجزاء من هذا المشروع، كما نرى في:
- العراق: الذي تحوّل إلى ثلاثة كيانات (شيعي – سني – كردي) بحكم الواقع.
- سوريا: التي دمّرتها الحرب، وتحولت إلى مناطق نفوذ دولية وإقليمية.
- السودان: الذي انقسم بالفعل إلى شمال وجنوب، وهناك دعوات لانقسام جديد في دارفور وكردفان والنيل الأزرق.
- ليبيا واليمن: تحوّلتا إلى ساحات صراع وتفكك مؤسسات الدولة.
- مصر: جرى الضغط عليها اقتصاديًا وسياسيًا بعد الثورة.
- إيران وتركيا: رغم معارضتهما للمشروع، إلا أن بعض مظاهره بدأت تؤثر عليهما.كما أن المشروع تماهى مع استراتيجية "الفوضى الخلاقة" التي ترى أن خلق اضطرابات كبيرة في المجتمعات العربية من شأنه أن يؤدي إلى ولادة شرق أوسط جديد يخدم مصالح الغرب وإسرائيل.

ولم تكن الاتفاقيات الإبراهيمية سوى جزء من هذا السياق الجديد، إذ جرى تسويقها كاتفاقيات سلام، لكنها عمليًا تسعى إلى إدماج إسرائيل في المنطقة كقوة مركزية، دون حل عادل للقضية الفلسطينية، مما يعمق الانقسام ويشرعن الاحتلال.

وهكذا فإن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" ليس مجرد خطة جيوسياسية، بل هو تعبير عن رؤية استعمارية جديدة تسعى لتفكيك وإعادة تركيب المنطقة بما يخدم مصالح قوى الهيمنة العالمية، ويمنع نهوضها كقوة مستقلة موحدة.

خاتمة:
إن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" ليس حدثًا منعزلاً، بل هو امتداد لتاريخ طويل من التدخلات الخارجية التي تستهدف إعادة تشكيل المنطقة وفقًا لمصالح قوى الهيمنة. من سايكس بيكو إلى وعد بلفور، ومن "القطيعة النظيفة" إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، يتجلى بوضوح أننا أمام مشروع متعدد المراحل، يستثمر في الفوضى والانقسامات. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل تمتلك الدول العربية والإسلامية اليوم الأدوات الفكرية والسياسية لإعادة بناء ذاتها، أم أنها ستظل حبيسة خرائط الآخرين؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حسن البرهان، شقيق عبد الفتاح البرهان، جمع ثروة طائلة تقدر بأكثر من 93 مليون دولار أمريكي

عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان: رجل إيران في إفريقيا وقائد المافيات الإجرامية الإرهابية في بورتسودان: التعاون الإيراني: الأسلحة المحرمة والجرائم الموصوفة

Welcoming U.S. Sanctions on Sudan for the Use of Chemical Weapons - Statement of Welcome and Support