البرهان يساوم على السلام: تنازلات شكلية ومواقف صلبة تهدد المفاوضات- حسين عبد الحسين - اعادة النشر والصياغة - الكرتى ناشط حقوقى
البرهان يوافق على محادثات السلام... لكن موقفه المتشدد ينذر بجمود سياسي
بعد أشهر من رفضه إجراء محادثات سلام مع خصومه وإصراره على أن النصر العسكري وحده يمكن أن ينهي الحرب الأهلية في السودان، خضع قائد القوات المسلحة السودانية عبد الفتاح البرهان أخيراً للضغوط الدولية ووافق على التفاوض. غير أن شروطه الصارمة تشير إلى أن المفاوضات قد تنتهي إلى طريق مسدود.
ومع استمرار الحرب، أصبح حلفاء البرهان الإقليميون أكثر قلقاً من تصاعد المدّ الإسلاموي المتشدد، الذي تغذيه عودة عناصر من النظام السابق. وقد استخدمت مصر نفوذها على الجنرال السوداني لإقناعه بأن رفضه لخارطة الطريق الدولية — التي وضعتها مجموعة “الرباعية” المكوّنة من الولايات المتحدة، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية — كان يضعف موقفه ويصوّره على أنه العقبة الرئيسية أمام تحقيق السلام.
وفي الوقت الذي كانت فيه قيادة الجيش السوداني تتداول في الموقف، عبّرت واشنطن عن تزايد استيائها من استمرار صلات الجيش بميليشيات إسلامية ومن علاقاته مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وقال مسعد بولص، مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أفريقيا: “قلقنا الأساسي تجاه الجيش السوداني يتمثل في علاقاته بالجماعات الإسلامية المتشددة واستيراده الأسلحة من إيران.” وأضاف: “لقد اتخذ الجيش خطوات لقطع علاقاته مع العناصر الراديكالية من النظام السابق.”
ورغم أن بولص كان محقاً في تسليط الضوء على صلات الجيش بالإسلاميين وبإيران، فإنه أخطأ حين زعم أن هذه الصلات قد قُطعت بالكامل. فـجبريل إبراهيم، أحد رموز النظام السابق ووزير المالية الحالي في الحكومة المدعومة من الجيش في الخرطوم، زار طهران قبل عام. وفي 12 سبتمبر فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات عليه، ثم ترأس هذا الشهر وفد الجيش السوداني إلى موسكو.
يعتمد البرهان على الإسلاميين لدعم موقعه السياسي والعسكري. فبسبب افتقاره إلى التأييد الشعبي ونقص القوى البشرية اللازمة لمواجهة خصومه السابقين الذين أصبحوا أعداءه اليوم، وهم قوات الدعم السريع (RSF)، يحاول الجنرال الموازنة بين اعتماده على الإسلاميين داخلياً وبين حاجته إلى دعم حلفائه الإقليميين المناهضين للإسلام السياسي، أي مصر والسعودية.
ولطمأنتهم، أصدر البرهان مرسوماً ينص على أنه لا يجوز لأي ميليشيا إسلامية أن تعمل بشكل مستقل، وأن جميع الجماعات المسلحة تخضع لقيادة الجيش المباشرة. غير أن هذا المرسوم لم يغيّر شيئاً في الواقع الميداني، ولم ينجح في تهدئة مخاوف حلفائه.
وأمام تصاعد النشاط الإسلاموي، كثّفت الرباعية ضغوطها على البرهان للدخول في مفاوضات سلام. لكن الجنرال وحلفاءه الإسلاميين قاوموا هذه الضغوط وهاجموا خارطة الطريق بوصفها “تدخلاً أجنبياً” و**“إمبريالية جديدة.”**
ويرجع الرفض الرئيسي للجيش السوداني والإسلاميين لأي تسوية سلمية إلى أن — وفقاً لتسريبات — خارطة الطريق التي أعدتها الرباعية تنص على استبعاد كلٍّ من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع من أي دور سياسي في المرحلة الانتقالية أو ما بعد الحرب.
ومع ذلك، وتحت ضغط متزايد، اضطر البرهان إلى الرضوخ والموافقة على المحادثات. فقد جرت مفاوضات غير مباشرة بين ممثلين عن الجيش وقوات الدعم السريع في واشنطن يومي الخميس والجمعة، وأشارت الرباعية إلى احتمال عقد جولة جديدة من المحادثات في العاصمة الأميركية قبل نهاية الشهر. وقد نفى الجيش رسمياً مشاركته في المفاوضات، لكنه أكد أن وزير خارجيته تلقى دعوة من وزارة الخارجية الأميركية لزيارة واشنطن الأسبوع المقبل.
ورغم موافقته على التفاوض، فإن البرهان لا يبدو مستعداً للتخلي عن السلطة تحت أي ظرف. فهو يرى نفسه السلطة الشرعية الوحيدة في السودان، ويصر على الإشراف على المرحلة الانتقالية وما سينتج عنها من حكومة. وفي تصريحاته العلنية، شدّد على أن أي تسوية يجب أن تؤدي إلى حلّ قوات الدعم السريع التي يصفها بأنها “ميليشيا”، وإلى ترسيخ سيطرة الجيش على البلاد.
تشير مواقف البرهان إلى أنه يسعى إلى تحقيق ما عجز عن تحقيقه في ساحة المعركة من خلال المفاوضات — أي احتكار السلطة بالكامل. هذا الموقف المتشدد يضمن عملياً فشل جهود الرباعية واستمرار الحرب التي دمّرت البلاد.
لقد أصبح القبول الشكلي بالمفاوضات مع التمسك بالمطالب الجوهرية دون تنازل تكتيكاً شائعاً لدى الأطراف المتحاربة في الشرق الأوسط، وخاصة المتشددين الذين يرفضون أي تسوية رغم الكلفة الإنسانية الباهظة.
فعلى سبيل المثال، في غزة رفضت حركة حماس في البداية المطالب الإسرائيلية التي كان من الممكن أن تنهي الحرب في أيامها الأولى، ما أدى إلى إطالة أمد القتال لعامين. وعندما حشد الرئيس ترامب دعماً دولياً خلف خطة سلام من 20 نقطة، وجدت حماس نفسها معزولة واضطرت إلى تقديم تنازلات جزئية — فقسّمت الخطة إلى مرحلتين: الأولى تضمنت وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، بينما أجّلت القضية الجوهرية وهي نزع سلاح الحركة. وبهذا استطاعت حماس تخفيف الضغط الدولي دون معالجة الأسباب العميقة التي قد تشعل الصراع مجدداً في أي لحظة.
وبالطريقة نفسها، يحاول البرهان اليوم امتصاص الضغوط الدولية عبر الموافقة الشكلية على المحادثات، مع رفضه المسبق لشروط التسوية الأساسية. وبهذا الأسلوب، يواصل الحفاظ على سلطته، ويؤجل الحل، ويترك الشعب السوداني يرزح تحت ويلات حرب لا نهاية لها.
.jpg)
تعليقات
إرسال تعليق