خسارة أعداد كبيرة من الرجال في ميادين القتال تغيّر المجتمعات جذريًا: تختلّ الأسرة، تنهار سبل العيش، وتولد أجيالٌ كاملة من الأيتام والأرامل والمجتمعات الضعيفة- الكرتى ناشط حقوقى
خسارة أعداد كبيرة من الرجال في ميادين القتال تغيّر المجتمعات جذريًا: تختلّ الأسرة، تنهار سبل العيش،
وتولد أجيالٌ كاملة من الأيتام والأرامل والمجتمعات الضعيفة
مدى تأثير فقد الرجال في المعارك على الوضع الاجتماعي:
ضحايا الاستغلال في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة
منذ الحرب العالمية الأولى وحتى
اليوم، تُظهر التجارب أن خسارة أعداد كبيرة من الرجال في ميادين القتال تغيّر
المجتمعات جذريًا: تختلّ الأسرة، تنهار سبل العيش، وتولد أجيالٌ كاملة من الأيتام
والأرامل والمجتمعات الضعيفة. في السودان المعاصر، هذا الدرس يتكرر لكن بصورة أكثر
قتامة وإجرامًا: أبناء مجتمعات دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة يُقدَّمون
كقِطَع شطرنج في لعبةٍ سياسية لا تعنيهم، ويُتركون خلفهم أسرٌ من دون معيل،
وأرواحٌ تسلب قبل أن تُفهم أسباب استشهادها.
استغلال قاتل: سياساتٌ تقود الشباب
إلى محارق لا طائل منها
ما يحدث ليس خطأً أو سوء إدارة
فحسب، بل نتاج سياسات ممنهجة واستغلالٍ واضح: قيادات سياسية وعسكرية ومن بينها ما
يُنمّي له البعض باسم البرهان يعيشون في أمان قصورهم وفي ملذات خارج البلاد، بينما
تُرسَل مجتمعاتٌ كاملة إلى جبهات تُدار فيها لعبة المصالح. هؤلاء الضباط الذين
تخرّجوا من الكلية الحربية ثم اختاروا النجاة بالخروج إلى مصر أو المغرب أو
الجزائر، يتركون جنودًا سودًا يواجهون الموت بلا خطة حماية ولا رؤية مستقبلية.
النتيجة: استنزاف بشري موجه يؤدي إلى إضعاف مجتمعات بعينها، اقتصادياً واجتماعياً
وثقافياً.
أثر الفقد على النسيج الاجتماعي
فقدان الرجال بكميات كبيرة يحدث
أربعة آثار فورية ومترابطة:
تفكك الأسرة: تتحول النساء إلى
معيلات وحيدات، والأطفال إلى أيتام أو شبه أيتام، تختلّ فيها منظومة التربية
والاعتماد المتبادل.
انهيار سبل العيش: المجتمعات التي
تعتمد على العمل اليدوي والزراعة والرعي تفقد القوة العاملة، فتنهار المحاصيل
وتتبخر قدرات الصمود الاقتصادي.
تآكل الهياكل القيادية التقليدية:
قادة المجتمع ورجال الفكر والطبقة الوسطى يتقلّصون، فتضعف قدرة المجتمع على تنظيم
نفسه، والاستجابة للأزمات.
تراكم الصدمات النفسية
والاجتماعية: يولد الحزن والفقد بيئة خصبة للغضب والانتقام، ويكبر جيل مزروع فيه
الإحساس بالظلم والمرارة.
لماذا هذا الاستهداف مأسوي؟
حين تُستهدف مجموعات بعينها أو
يُستغل شبابها لحساب مشاريعٍ سياسية أو عرقية — سواء عبر الإرسال إلى الموت،
التجنيد القسري، أو سحب الموارد من مناطقهم فإن العواقب تتعدى الموت الفردي. تصبح
هناك محاولة لتفريغ المجتمع من أفراده الأكفّاء، ليبقى فضاءً قابلاً للسيطرة
والسياسات الاستبدادية. هذا ما تفعله سياسات الإهمال والإرسال إلى الموت: تفريغ
البنية المجتمعية من عناصرها الحيوية.
شهادات المجتمع وتأثيرها الحقيقي
تخبرنا القرى في دارفور عن بيوتٍ
لم يعد فيها رجل واحد قادر على العمل، عن محاصيلٍ تُترك لتتعفن، وعن أطفالٍ يتركون
الدراسة بحثًا عن أي مصدر رزق. في النيل الأزرق تروي نساءٌ كيف أصبح عليهن رعاية
أسر كاملة بمواردٍ معدومة، وفي جبال النوبة يصف الشيوخ فراغًا كبيرًا في الممارسات
الثقافية والاجتماعية التي كانت تشكل سندًا للهوية.
الأبعاد الاقتصادية طويلة الأمد
مع اختفاء العنصر المنتج، يزداد
الاعتماد على المساعدات الخارجية، وتضعف فرص التعليم والصحة، وتنهار المشاريع
الصغيرة. الاقتصاد المحلي يتحول من منتج إلى متلقٍّ للمساعدات، ما يكرّس حالة
الفقر ويطيل أمد التبعية ويقلّص القدرة على الانتعاش بعد الصراع.
من يربح؟ من يخسر؟
الربح الحقيقي يذهب إلى أنظمة
فاسدة وقوى سياسية تستفيد من إضعاف مجتمعات بعينها. الخاسر الأكبر هم القرى
والعائلات والأطفال الذين خسرت مجتمعاتهم روافدها الحيوية. الضباط الذين تبنّوا
مسارات النجاة في الخارج، والقيادات التي أرسلت الأبناء إلى ميادين لا أفق لها، هم
المسؤولون الأخلاقيون عن هذا التدمير الجزئي للمجتمع.
دعوة للمساءلة والحماية
لن تستطيع المجتمعات أن تُعالج هذه
الجراح دون محاسبة واضحة: تحقيقات مستقلة في سياسات التجنيد والإرسال، حماية حقوق
النساء والأطفال المتضررين، برامج إعادة بناء اقتصادي ونفسي، وضمانات دولية لتقييد
من يعرّضون مجتمعات بأكملها لخطر الإبادة البطيئة. كما يجب على المجتمع الدولي
والمنظمات الحقوقية الضغط من أجل آليات حماية فعالة ومحاسبة المسؤولين سواء داخل
السودان أو بالخارج.
خاتمة: دماء لا تُنسى، مستقبل
يستحق النضال
خسارة الرجال في ساحات القتل ليست
مجرد أرقام إحصائية إنها جرحٌ يفتّت مجتمعات بأكملها. حين يُستخدم شبّان دارفور
والنيل الأزرق وجبال النوبة كوقودٍ لحروبٍ لا تمسّ مصالحهم الحقيقية، فإننا أمام
جريمة اجتماعية وسياسية وثقافية ينبغي مواجهتها بكل قوة: بالكلام، بالقانون،
والضغط الدولي، وبخطة استعادة تضمن للمجتمعات حقها في الحياة والكرامة والعيش
الكريم.
مدى تأثير فقدان الرجال في المعارك الحربية على الوضع الاجتماعي: من الحرب
العالمية الأولى إلى الحرب العبثية في السودان
منذ الحرب العالمية الأولى، ظل
فقدان أعداد كبيرة من الرجال في ميادين القتال أحد أخطر التحديات الاجتماعية
والاقتصادية التي تواجه المجتمعات. ففي أوروبا مثلاً، أدت خسائر الملايين من
الجنود إلى خلل عميق في التركيبة السكانية، حيث تفاقمت نسبة الأرامل والأيتام، وانهارت
قطاعات الإنتاج التي كانت تعتمد بالأساس على سواعد الرجال. هذا النقص لم يكن مجرد
مسألة عددية، بل مسّ جوهر البناء الاجتماعي، وأدى إلى إعادة تعريف أدوار النساء،
ونشوء تحولات جذرية في العائلة والمجتمع.
في السودان، تكررت الصورة
المأساوية وإن اتخذت طابعاً أكثر ظلماً، حيث يتم تقديم الجنود السود من أبناء
دارفور، النيل الأزرق، وجبال النوبة، كوقودٍ في حرب عبثية لا تعنيهم. هؤلاء
الجنود، الذين ينتمون إلى مجتمعات قبلية تعتمد اعتماداً كلياً على الرجال في
الإنتاج الزراعي والرعوي، يُساقون إلى الموت بينما يُترك الفراغ القاتل في
مجتمعاتهم: أطفال بلا آباء، نساء بلا أزواج، وأسر بلا عائل.
المفارقة الأكثر إيلاماً أن الضباط
الكبار، ومعظمهم من أبناء نهر النيل والشمالية، والذين تخرجوا من الكلية الحربية
السودانية، اختاروا الهرب إلى الخارج. فرّوا إلى مصر والمغرب والجزائر ودول أخرى،
حيث يعيشون في قصور فارهة بُنيت من أموال الفساد والنهب، في مأمن من ويلات الحرب،
بينما تُترك المجتمعات السوداء لمواجهة آلة الموت. هذه السياسة ليست مجرد إهمال أو
تقصير، بل هي استهداف ممنهج لمجموعات عرقية بعينها، يتم الزجّ بأبنائها في حرب لا
مصلحة لهم فيها سوى أن يكونوا وقوداً لإطالة عمر نظام أو إرضاء جماعات متنفذة.
إن فقدان أعداد ضخمة من الرجال في
هذه المناطق لا يقف عند حدود الخسارة البشرية المباشرة، بل يتعداها إلى كوارث
اجتماعية واقتصادية. في دارفور مثلاً، حيث يعتمد النظام الزراعي والرعوي على قوة
الرجال، فإن موت آلاف الشباب يعني تراجع القدرة على الزراعة والرعي، مما يفتح
الباب للمجاعة والاعتماد على المساعدات الإنسانية. في النيل الأزرق، تفقد
المجتمعات القبلية بنيتها الأسرية الصلبة، إذ يتحول البيت إلى وحدة هشّة تُدار
بقيادة النساء وحدهن في ظروف قاسية، بينما يتعرض الأطفال للتشرد والانحراف. وفي
جبال النوبة، يؤدي النزيف المستمر للرجال إلى إضعاف النسيج الاجتماعي، حيث تختفي
الأعمدة التي تستند إليها البنية التقليدية للمجتمع.
اقتصادياً، تتحول هذه المجتمعات
إلى كيانات مفككة، إذ يُفقد العنصر المنتج، بينما تُترك النساء والأطفال يواجهون
أعباء الحياة بلا عائل. كما أن فقدان الرجال يضاعف من معدلات الفقر، ويقوّض فرص
التعليم والصحة، ويزرع بذور العنف والانتقام في الأجيال الجديدة التي تكبر على فقد
الأب والأخ والعم.
إن ما يجري اليوم في السودان يكرر
دروس التاريخ المظلم: حين تُساق مجموعات بشرية محددة لتكون وقوداً لحرب عبثية، فإن
الخسارة لا تُقاس بعدد القتلى وحده، بل بتمزق المجتمعات، وتدمير بنيتها الاقتصادية
والاجتماعية، وتراكم جراح يصعب اندمالها لعقود طويلة.
إن استمرار هذا النهج يعني أن
مستقبل دارفور، النيل الأزرق، وجبال النوبة، سيُرسم بالدموع والفقر والانكسار،
بينما يزداد الأثرياء في الخرطوم والشمالية ثراءً، ويظل أبناء القرى في نعوشهم أو
في خنادق لا رجعة منها. إنها سياسة إفراغ المجتمعات السوداء من رجالها، وتركها
معلّقة بين الموت والبقاء.
ختاماً، إذا كان العالم قد تعلم من
الحرب العالمية الأولى أن فقدان الرجال يغيّر ملامح المجتمع لعقود، فإن ما يحدث في
السودان اليوم يجب أن يُقرأ كجريمة متعمدة ضد فئات عرقية بعينها، لا كحرب عابرة.
والسكوت عنها ليس إلا مشاركة في هذه الجريمة.
الاستنزاف العرقي في السودان: حين تتحول القبائل المهمشة
إلى ذخيرة بشرية بقلم: الكرتي
- ناشط حقوقي
في قلب المأساة السودانية، تتكشف
فصول دامية من حرب لا هوادة فيها، حيث تتحول أجساد أبناء القبائل المهمشة إلى وقود
بشري يُستهلك في معارك لا تخصهم، ولا تعود عليهم إلا بالموت والخراب. إنها حرب
تُدار بدماء الفقراء، وتُشعلها مصالح النخب، بينما تُدفن أحلام البسطاء في تخوم
كردفان، وتُترك نساؤهم وأطفالهم في الكنابي بلا سند ولا مستقبل.
حرب بلا عدالة… موت بلا معنى
من دارفور إلى جبال النوبة، ومن
النيل الأزرق إلى الكنابي في ولايات القضارف وكسلا والبحر الأحمر والجزيرة، تتكرر
المأساة: شباب يُجندون قسرًا أو يُدفعون إلى القتال تحت وطأة الفقر، ثم يُقتلون في
معارك بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، ويُدفنون في صمت، بلا أسماء، بلا
قبور تليق بكرامتهم. هؤلاء ليسوا جنودًا نظاميين، بل أبناء مجتمعات مهمشة، تُستخدم
أجسادهم كذخيرة بشرية في صراع لا يملكون فيه رأيًا ولا قرارًا.
الاستنزاف العرقي: جريمة منظمة
ما يحدث ليس مجرد تجنيد عشوائي، بل
نمط ممنهج من الاستنزاف العرقي. يتم استهداف القبائل الأفريقية تحديدًا، في عملية
تبدو وكأنها تطهير غير معلن، حيث يُستنزف الرجال، ويُترك المجتمع بلا عمود فقري.
الكنابي، التي كانت يومًا ملاذًا للعمال الزراعيين، أصبحت اليوم مدنًا بلا رجال،
تعج بالأرامل والأيتام، وتئن تحت وطأة الفقر والانهيار الاجتماعي.
الأثر الاجتماعي والاقتصادي: انهيار متكامل
غياب الرجال عن الكنابي لا يعني
فقط فقدان الأرواح، بل يعني أيضًا:
انهيار الأسر: النساء يتحملن عبء
إعالة الأسر وحدهن، في ظل غياب الدعم والرعاية.
تراجع الإنتاج الزراعي: الكنابي
كانت تعتمد على العمالة الذكورية، وغيابها أدى إلى تراجع حاد في الإنتاج.
تفكك النسيج الاجتماعي: غياب
الآباء والأشقاء خلق فراغًا تربويًا وأخلاقيًا، يُهدد الأجيال القادمة.
انتشار الفقر والتشرد: الأرامل
والأيتام بلا معيل، ما يدفعهم نحو التسول أو الهجرة القسرية.
من المسؤول؟
المسؤولية لا تقع على طرف واحد، بل
على منظومة كاملة:
القيادات العسكرية التي تستخدم
أبناء الهامش وقودًا لحروبها.
النخب السياسية التي تكرّس التهميش
وتغض الطرف عن هذه الجرائم.
المجتمع الدولي الذي يكتفي
بالإدانة دون تحرك فعلي لحماية هؤلاء الضحايا.
دعوة
للمحاسبة والعدالة
بصفتي ناشطًا حقوقيًا، أطالب بـ:
تحقيق دولي مستقل في جرائم التجنيد
القسري والاستهداف العرقي.
حماية المجتمعات المهمشة من
الاستغلال العسكري والسياسي.
إعادة تأهيل الكنابي اقتصاديًا
واجتماعيًا، عبر دعم الأرامل والأيتام.
إدماج أبناء الهامش في القرار
الوطني، لضمان عدم تكرار هذه المأساة.
إن ما يحدث في السودان اليوم ليس
مجرد حرب، بل جريمة ضد الإنسانية تُرتكب على مرأى ومسمع من العالم. والسكوت عنها
هو مشاركة في الجريمة. فلنرفع الصوت، ولنكتب، ولنفضح، حتى لا يُدفن المزيد من
الأبرياء في صمت.
الكرتي - ناشط حقوقي
29 سبتمبر 2025م
أبناء الهامش يُدفنون في بطون الذباب وأبناء السحت
يُدفنون في بطون البنوك الأجنبية بقلم: الكرتي - ناشط حقوق إنسان
في السودان، لا تتوزع الحرب
بعدالة، ولا يُقسم الموت بالتساوي. فبينما تُزهق أرواح أبناء دارفور وجبال النوبة
والنيل الأزرق وكردفان في معارك عبثية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، يعيش أبناء
المركز في رفاهية مصطنعة، يهربون من رائحة البارود إلى عواصم العالم، ويُدفنون
لاحقًا في بطون البنوك الأجنبية، لا في تراب الوطن.
أبناء الهامش يُستدعون إلى ساحات
القتال، يُجندون قسرًا، يُستنزفون بلا تدريب، ويُقتلون بلا حتى شاهد قبر. أجسادهم
تُترك في العراء، تنهشها الكلاب الضالة، وتلتهمها الذباب، وكأنهم لم يكونوا يومًا
بشرًا لهم أسماء وأحلام. لا جنازات، لا تأبين، لا عدالة.
أما أبناء السحت، أولئك الذين
اغتنوا من المال العام، فهم لا يُستدعون إلى الحرب، بل يُستدعون إلى المؤتمرات،
إلى صفقات الفساد، إلى حسابات بنكية في دبي ولندن وجنيف. يعيشون على دماء الفقراء،
ويُدفنون في أرصدة لا تموت، بينما الوطن يُدفن في كل طلقة تُطلق على أبناء الهامش.
هذه ليست حربًا فقط، إنها جريمة
طبقية، عرقية، أخلاقية. إنها إبادة ببطء، تُنفذها النخب على ظهور البسطاء. إنها
عدالة مقلوبة، حيث يُكافأ اللص، ويُقتل الشريف، ويُنسى الشهيد، ويُخلّد الفاسد.
فمن يُعيد التوازن؟ من يُوقف هذا
النزيف؟ من يُطالب بأن يكون الموت على الأقل عادلاً؟ الكرتي - ناشط
حقوق إنسان

تعليقات
إرسال تعليق