الشرق الأوسط الجديد: هل رسم خريطته الجيوسياسية بما يخدم مصالح القوى الكبرى

 


مقدمة شاملة

يشهد الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين محاولات متكررة لإعادة رسم خريطته الجيوسياسية بما يخدم مصالح القوى الكبرى، خاصة الغربية منها، إلى جانب إسرائيل. لم تكن هذه المحاولات منفصلة عن السياق الاستعماري الذي رافق سقوط الدولة العثمانية، بل امتداداً له عبر أدوات سياسية وعسكرية وثقافية جديدة. من بين هذه المشاريع، يبرز مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" بوصفه تعبيراً عن أحدث محاولات إعادة الهيكلة، وهو مصطلح يعكس تصورات استراتيجية طويلة الأمد، تتشابك فيها مصالح الهيمنة الغربية والأمن الإسرائيلي مع الصراعات الداخلية في دول المنطقة. في هذا السياق، يقدّم مركز الحقيقة والمعرفة تحليلاً معمقاً لأصل هذا المصطلح، خلفيته التاريخية، أهدافه المعلنة وغير المعلنة، وآليات تنفيذه، مستنداً إلى مصادر عربية وغربية متعددة.


أصل المصطلح وخلفيته

يرى مركز الحقيقة والمعرفة أن مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" (The New Middle East) لم يأتِ من فراغ، بل يعكس تراكمات تاريخية طويلة بدأت مع اتفاقية سايكس–بيكو (1916)، التي أعادت رسم حدود المشرق العربي بعيداً عن الاعتبارات الديموغرافية والثقافية، وأسست لدول قومية مصطنعة زرعت بذور النزاعات المستقبلية. تلاها وعد بلفور (1917) الذي مهد الطريق لإقامة دولة إسرائيل، لتصبح نقطة ارتكاز لمشاريع الهيمنة الإقليمية.

في خمسينيات القرن العشرين، ظهرت خطط تفكيك الدول العربية الكبيرة، مثل خطة برنارد لويس، بهدف إضعاف أي قوة قد تهدد المصالح الغربية أو الإسرائيلية. بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ظهر مشروع "الشرق الأوسط الكبير" عام 2004 ليطرح إصلاحات سياسية واقتصادية بغطاء مكافحة الإرهاب. في حرب لبنان عام 2006، صرّحت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس بأن ما يحدث هو "مخاض ولادة شرق أوسط جديد"، ليخرج المصطلح من الدراسات الأكاديمية إلى الخطاب السياسي المباشر.

يعتقد مركز الحقيقة والمعرفة أن أصل هذا المشروع، رغم ترويجه كخطة إصلاحية، يهدف في حقيقته إلى إعادة تشكيل المنطقة سياسياً واجتماعياً بما يضمن أمن إسرائيل، ويكرس الهيمنة الغربية، ويمنع أي مشروع وحدوي أو نهضوي عربي.


الأهداف المعلنة

تُقدَّم الأهداف المعلنة للمشروع في الخطاب الإعلامي والسياسي بوصفها خطوات إصلاحية تهدف إلى:

  • نشر الديمقراطية: دعم الانتخابات الحرة وتوسيع الحريات المدنية.

  • تحقيق التنمية المستدامة: خفض معدلات البطالة، وتحفيز الاستثمار الأجنبي.

  • مكافحة الإرهاب والتطرف: القضاء على الحركات الجهادية وتجفيف منابع الفكر المتشدد.

  • تمكين المرأة وتعزيز حقوق الإنسان: كجزء من شروط الانخراط في "النظام العالمي الجديد".


الأهداف غير المعلنة

بحسب ما توصلت إليه تحليلات الباحثين والمصادر الوثائقية، تكشف الأهداف الخفية للمشروع عن نوايا استراتيجية عميقة، من أبرزها:

  • إعادة رسم خريطة المنطقة: تقسيم الدول الكبرى (العراق، سوريا، السودان، ليبيا، السعودية) إلى كيانات أصغر، ضعيفة عسكرياً وسياسياً.

  • ضمان أمن إسرائيل: جعلها القوة الإقليمية الوحيدة المستقرة والمتماسكة.

  • السيطرة على الموارد الحيوية: خاصة النفط، الغاز، والمياه.

  • إشغال الشعوب بالصراعات الداخلية: لمنع أي مشروع مقاوم أو وحدوي.

  • فرض التبعية الاقتصادية والسياسية: ضمان اعتماد الدول العربية والإسلامية على الغرب في الأمن والغذاء والسلاح والدواء.


الأدوات وآليات التنفيذ

يتبنى المشروع مزيجاً من الأدوات الناعمة والصلبة، أبرزها:

  • دعم الحركات الانفصالية والمسلحة.

  • إثارة النزاعات الداخلية الطائفية والمذهبية والعرقية.

  • فرض الحصار الاقتصادي والعقوبات.

  • التدخل العسكري المباشر وغير المباشر.

  • السيطرة الإعلامية والثقافية عبر "القوة الناعمة".

  • الضغط من خلال المنظمات الدولية.


تحليلات المصادر العربية

د. علي محافظة وعبد الحي زلوم

يُجمع الباحثان على أن المشروع امتدادٌ لاتفاقية سايكس–بيكو، يهدف إلى تفتيت الدول العربية الكبرى وإضعافها طائفياً وعرقياً، مع ضمان الهيمنة على الموارد الطبيعية. يعتبر عبد الحي زلوم أن المشروع يسعى لتكريس التبعية الاقتصادية عبر ربط الاقتصادات العربية بإسرائيل والغرب.

فهمي هويدي

يرى أن المشروع استعمار جديد بثوب ديمقراطي، يروّج لمفهوم "تفتيت المتفتت"، خصوصاً في دول هشة مثل العراق وسوريا وليبيا، ويهدف إلى دمج إسرائيل في المنطقة ككيان طبيعي.


تحليلات المصادر الإنجليزية

Paul Danahar – The New Middle East

يعتبر دانهار أن الثورات الشعبية (الربيع العربي) استُغلت لإعادة هندسة خريطة النفوذ، وليس فقط بدافع مطالب الشعوب. يرى أن النتيجة كانت انهيار الدولة الوطنية وظهور كيانات هشة وصراعات دائمة.

Jeremy Salt – The End of the Middle East?

يطرح سولت أن الشرق الأوسط، بوصفه مفهوماً جغرافياً وسياسياً صاغته القوى الاستعمارية، يواجه تدميراً ممنهجاً لصالح مصالح خارجية، مشيراً إلى تفكك الهوية الجامعة وتآكل مشاريع الدولة الوطنية.

David Fromkin – A Peace to End All Peace

يوضح فرومكين أن تقسيم المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى خلق كيانات مصطنعة لا تزال تشكل بؤر صراع مستمر. يرى أن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" مجرد امتداد لتلك السياسات الاستعمارية.

تقرير "القطيعة النظيفة" وخريطة Ralph Peters

يُعد تقرير "القطيعة النظيفة" (1996) خريطة استراتيجية لإعادة تشكيل المنطقة بشكل يخدم مصالح إسرائيل الأمنية، فيما تعرض خريطة رالف بيترز (2006) تصوراً لتقسيم المنطقة إلى دويلات عرقية وطائفية، خاصة العراق وسوريا والسعودية والسودان.


النتائج المتوقعة

على مستوى الدول

  • زيادة هشاشة الدولة الوطنية.

  • ظهور كيانات جديدة على أسس طائفية أو إثنية.

  • انهيار الحدود القديمة وخلق بؤر توتر دائمة.

على مستوى المجتمع

  • تفكك الهوية الوطنية.

  • تعزيز الولاءات الفرعية (طائفية، عرقية، مناطقية).

  • استنزاف الموارد في حروب أهلية.

على المستوى الاقتصادي

  • استمرار الاقتصادات الريعية الضعيفة.

  • فشل مشاريع التكامل الإقليمي.

  • ازدياد التبعية للغرب في مختلف القطاعات.

على المستوى الجيوسياسي

  • صعود إسرائيل كقوة مهيمنة إقليمياً.

  • استمرار النفوذ الأميركي والغربي كضامن أمني واقتصادي دائم.


خاتمة عامة

إن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" ليس مجرد مصطلح إعلامي عابر، ولا مجرد مخطط نظري؛ بل هو امتداد لمسار استراتيجي طويل بدأ مع انهيار الدولة العثمانية واتفاقية سايكس–بيكو، واستُكمل بوعد بلفور ومشاريع التقسيم اللاحقة. يمزج المشروع بين القوة الناعمة (الإعلام، الحقوق، الدعم المدني) والقوة الصلبة (التدخل العسكري، العقوبات، التفتيت)، لتفكيك المنطقة وضمان بقاء إسرائيل قوةً مهيمنة، وإبقاء العالم العربي والإسلامي في حالة من التشرذم والضعف.

في مواجهة هذا المشروع، تبرز الحاجة الملحّة إلى بناء وعي مجتمعي نقدي، وإعادة إحياء المشاريع الوطنية والوحدوية، وصياغة سياسات دفاعية شاملة، تنبع من الداخل وتستند إلى إرادة الشعوب. إن فهم جذور "الشرق الأوسط الجديد" وغاياته وأدواته هو الخطوة الأولى نحو مقاومته وصياغة مستقبل عربي وإسلامي مستقل ومتماسك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أدلة على القتل الجماعي والتخلص من الجثث في مقبرة جماعية قرب مستشفى الأطفال السابق في الفاشر

حسن البرهان، شقيق عبد الفتاح البرهان، جمع ثروة طائلة تقدر بأكثر من 93 مليون دولار أمريكي

تقارير دولية وأبحاث مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل، وبوضوح من خلال تحليل صور الأقمار الصناعية : الجنجويد والحكومة التأسيسية ينقلان جثث الضحايا إلى الصحارى لطمس الأدلة